فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهناك هجرة باقية لنا وهي الحج، أو الهجرة إلى طلب العلم، أو الهجرة لأن هناك مجالًا للطاعة أكثر، فلنفترض أن هناك مكانًا يضيق الحكام فيه على الذهاب إلى المسجد، فيترك أهل الإيمان هذا المكان إلى مكان فيه مجال يأخذ فيه الإنسان حرية أداء الفروض الدينية، كل هذه هجرات إلى الله. والنية في هذه الهجرات لا يمكن أن تكون محصورة فقط في طلب سعة العيش. ولذلك لا يصح أن يكون الشغل الشاغل للناس ما يشغلهم في هذا الزمان هو سعة العيش.
وها هو ذا الإمام على- كرم الله وجهه- يقول: عجبت للقوم يَسْعَوْنَ فيما ضُمِن- بالبناء للمفعول- لهم ويتركون ما طلب منهم. فكل سعى الناس إنما هو للرزق والعيش وهو أمر مضمون لهم من خالقهم جل وعلا: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 100].
ولن يجد المهاجر إلا السعة من الله، والشاعر يقول:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ** ولكن أخلاق الرجال تضيق

وقد يقول الإنسان: إنني أطلب سعة الرزق بالهجرة، ونقول: أنت تبحث عن وظيفة لها شكل العمل وباطنها هو الكسل لأنك في مجال حياتك تجد أعمالًا كثيرة.
ونجد بعضًا ممن يطلبون سعة الرزق يريد الواحد منهم أن يجلس على مكتب ويقبض مرتبًا، بينما يبحث المجتمع عن العامل الفني بصعوبة، كأن الذين يبحثون عن سعة الرزق يريدون هذه السعة مع الكسل، لا مع بذل الجهد.
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} وساعة تقرأ كلمة «مراغم» تعرف أنها تفتح المجال أمام المستضعفين الذين يستذلهم الجبارون. ومادة «مراغم» هي «الراء والغين والميم» والأصل فيها «الرّغام» أي «التراب». ويقال: سوف أفعل كذا وأنف فلان راغم، أي أنف فلان يذهب إلى التراب وسأفعل ما أنا مصمم عليه. وما دام هناك إنسان سيفعل شيئًا برغم أنف إنسان آخر، فمعناه أن الثاني كان يريد أن يستذله وأراد أن يرغمه على شيء، لكنه رفض وفعل ما يريد.
وعندما يرى الإنسان جبارًا يشمخ بأنفه ويتكبر، فهو يحاول أن يعانده ويصنع غير ما يريد ويجعل مكانه هذا الأنف في التراب، ويقال في المثل الشعبي: أريد أن أكسر أنف فلان.
وعندما يهاجر من كان مستعضفا ويعاني من الذلة في بلده، سيجد أرضًا يعثر فيها على ما يرغم أنف عدوه. فيقول العدو: برغم أنن ضيقت عليه راح إلى أحسن مما كنت أتوقع. ويرغم الإنسان بهجرته أنف الجبارين.
وكلمة «مراغم» هي اسم مفعول، وتعني مكانًا إذا ما وصلت إليه ترغم أنف خصمك الذي كان يستضعفك، فهل هناك أفضل من هذا؟.
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} أي أنه سبحانه يعطي المهاجر أشياء تجعل من كان يستضعفه ويستذلّه يشعر بالخزي إلى درجة أن تكون أنفه في الرَّغام.
والمستضعف في أرضٍ ما يجد من يضيق عليه حركته، لكنه عندما يهاجر في سبيل الله سيجد سعة ورزقًا.
ويتابع الحق الآية: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} ولا أحد يعرف ميعاد الموت. فإن هاجر إنسان في سبيل الله فقد لا يصل إلى المراغم؛ لأن الموت قد يأتيه، وهنا يقع أجره على الله. فإذا كان سبحانه قد وعد المهاجر في سبيله بالمكان الذي يرغم أنف خصمه وذلك سبب، ومن مات قبل أن يصل إلى ذلك السبب فهو قد ذهب إلى رب السبب، ومن المؤكد أن الذهاب إلى رب السبب أكثر عطاءً. وهكذا نجد أن المهاجر رابح حيًا أو ميتًا.
{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} وكلمة {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ} أي سقط أجره على الله.
كأن الحق سبحانه وتعالى يقول للعبد: أنت عندما تهاجر إلى أرض الله الواسعة، إن أدركك الموت قبل أن تصل إلى السعة والمراغم، فأنت تذهب إلى رحابي. والمراغم سبب من أسبابي وأنا المسبب.
وحتى نفهم معنى: {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ} علينا أن نقرأ قوله الحق: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم} [النمل: 82]
والوقوع هنا هو سقوط، ولكنه ليس كالسقوط الذي نعرفه، بل هو الذهاب إلى الله. ولماذا يستخدم الحق هنا {وقع} بمعنى «سقط»؟
هو سبحانه يلفتنا إلى ملحظ هام: حيث يكون الجزاء أحرص على العبد من حرص العبد عليه، فإذا ما أدرك العبد الموت فالجزاء يسعى إليه وهو عند الله، ويعرف الجزاء مَن يذهب إليه معرفة كاملة.
وهكذا يجب أن نفهم قوله الحق: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 100]
والله غفور رحيم حتى لمن توانى قليلًا، وذلك حتى يلحق بالركب الإيماني ويتدارك ما فاته؛ لأن الله يغفر ما فات إن حاول العبد تداركه. والهجرة تقتضي ضربًا في الأرض، وتقتضي الجهاد.
وبعد أن جعل الله الإسلام أركانًا، جاء فحمل المسلم ما يمكن أن يؤديه من هذه الأركان، فأركان الإسلام هي: الشهادة؛ والصلاة؛ والصوم؛ والزكاة؛ والحج لمن استطاع إلى ذلك سبيلًا، والمسلم ينطق بالشهادة ويؤدي الصلاة، ولكنه قد لا يملك مالًا؛ لذلك يعفيه الحق من الزكاة. وقد يكون صاحب مرض دائم فلا يستطيع الصوم، فيعفيه الله من الصوم. وقد لا تكون عنده القدرة على الحج فيعفيه الحق من الحج. أما شهادة «لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» فقد لا يقولها المسلم في العمر إلا مرة واحدة. ولم يبق إلا ركن الصلاة وهو لا يسقط عن الإنسان أبدًا ما دامت فيه الصلاحية لأدائها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر كله الإسلام وعموده الصلاة».
ولأن الصلاة هي الركن الذي لا يسقط أبدًا فقد جمع الله فيها كل الأركان، فعند إقامة الصلاة يشهد المسلم ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وخلال الصلاة يصوم الإنسان عن الطعام والشراب، وإضافة إلى ذلك يصوم ويمتنع عن الكلام أيضا، وهكذا نجد الصلاة أوسع في الإمساك عن ركن الصيام. فالإنسان وهو يقيم الصلاة يحبس نفسه عن أشياء كثيرة قد يفعلها وهو صائم، فالصوم- مثلًا- لا يمنع الإنسان من الحركة إلى أي مكان لكن الصلاة تمنع الإنسان إلا من الوقوف بين يدي الله.
إذن فالصلاة تأخذ إمساكًا من نوع أوسع من إمساك المؤمن في الصيام. والزكاة هي إخراج جزء من المال، والمال يأتي به الإنسان من الحركة والعمل. والحركة والعمل تأخذ من الوقت. وحين يصلي المسلم فهو يزكي بالأصل، إنه يزكي ببذل الوقت الذي هو وعاء الحركة، إذن ففي الصلاة زكاة واسعة.
والحج إلى البيت الحرام موجود في الصلاة؛ لأن المسلم يتحرى الاتجاه إلى البيت الحرام كقبلة في كل صلاة، وهكذا.
ولذلك اختلفت الصلاة عن بقية الأركان. فلم تشرع بواسطة الوحي، وإنما شرعت بالمباشرة بين رب محمد ومحمد صلى الله عليه وسلم. ولأن هذه هي منزلة الصلاة نجد الحق يحذرنا من أن يشغلنا الضرب في الأرض عنها، بل شرع سبحانه صلاة مخصوصة اسمها «صلاة الحرب وصلاة الخوف» حتى لا يقولن أحد إن الحرب تمنعنا من الصلاة، ففي الحرب يكون من الأولى بالمسلم أن يلتحم بمنهج ربه.
كذلك في السفر يشرع الحق قصر الصلوات: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ...} اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)}
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله: {مراغمًا كثيرًا وسعة} قال: المراغم التحول من أرض إلى أرض. والسعة الرزق.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {مراغمًا} قال: متزحزحًا عما يكره.
وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس. أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: {مراغمًا} قال: منفسحًا بلغة هذيل. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
واترك أرض جهرة إن عندي ** رجاء في المراغم والتعادي

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: المراغم المهاجر.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، مراغمًا قال: مبتغى للمعيشة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صخر مراغمًا قال منفسحًا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة {يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة} قال: متحولًا من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: {وسعة} قال: ورخاء.
وأخرج عن ابن القاسم قال: سئل مالك عن قول الله: {وسعة}؟! قال: سعة البلاء.
وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرًا فقال لأهله: احملوني فاخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله} الآية.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس قال: كان بمكة رجل يقال له ضمرة من بني بكر، وكان مريضًا فقال لأهله: أخرجوني من مكة فإني أجد الحر. فقالوا أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو طريق المدينة، فخرجوا به فمات على ميلين من مكة، فنزلت هذه الآية {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت}.
وأخرج أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين عن عامر الشعبي قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا...} الآية. قال: نزلت في أكثم بن صيفي قلت: فأين الليثي؟ قال: هذا قبل الليثي بزمان، وهي خاصة عامة.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في سننه عن سعيد بن جبير. أن رجلًا من خزاعة كان بمكة فمرض، وهو ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة بن زنباع، فلما أمروا بالهجرة كان مريضًا، فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره، ففرشوا له وحملوه وانطلقوا به متوجهًا إلى المدينة، فلما كان بالتنعيم مات، فنزل {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة، فلما نزلت {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة} [النساء: 98] فقال: إني لغني، وإني لذو حيلة. فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت هذه الآية {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله}.
وأخرج ابن جرير من وجه آخر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} [النساء: 95] رخَّص فيها لقوم من المسلمين ممن بمكة من أهل الضرر حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين، ورخص لأهل الضرر حتى نزلت {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} [النساء: 97] إلى قوله: {وساءت مصيرًا} [النساء: 97] قالوا: هذه موجبة حتى نزلت {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا} [النساء: 98] فقال ضمرة بن العيص أحد بني ليث وكان مصاب البصر: إني لذو حيلة لي مال فاحملوني، فخرج وهو مريض، فأدركه الموت عند التنعيم، فدفن عند مسجد التنعيم، فنزلت فيه هذه الآية {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت} الآية.